كانت المكاشفة الأخيرة بين الإسرائيلي والفلسطيني والتي بدأت في شعفاط وانتهت في مذبحة غزة، مختلفة هذه المرة، وقد جاء اختلافها بالأساس من كونها قشرت طبقات كانت مختبئة حول الوجودين الحضاري والأخلاقي لكل طرف في فلسطين التاريخية ومبرراتهما والسؤال التفاضلي بينهما. فوسط جنون جماعي إسرائيلي وذهول فلسطيني أشبه بالتطبيع مع القدر تغير تداخل دور الجلاد والمحتل النقي والطاهر بدور الضحية الخالصة والنبيلة، تداخلت الأمور للغاية وقد يكون السبب الرئيس لهذا التداخل هو السؤال الكبير الذي طرح؟ هل استنفذت شروط وجود الإسرائيلي جدواها عبر إدارة الفلسطيني ظهره واختفاءه من فضاء الرصد الأخلاقي الذي يصادق على وجوده كأب محرر (محرر للمثليين مثلا أو للنساء المرشحات للقتل في مجتمعاتهن).
في إحدى نهايات الحرب الوهمية غادرت البلد متوجها للندن وبعد أن غبت أسبوعاً أو أقل (لا غير) عدت وقد كان دخول المطار غرائبياً للغاية على الأقل على مستوى الوعي وقد بدأ ذلك عندما همت الطائرة بالهبوط حيث صرت أهذي حول أرض خيالية ووهمية ستهبط فيها الطائرة...أرض هي كذبة كبيرة دمرتنا جميعاً وكنت متأكداً من أن الطائرة ستتحطم وستذوب آثارها على مسطح من التربة المفترسة...أما في الحافلة التي تقل العائدين إلى موقف السيارات المتروكة لفترات طويلة، فقد صرت أتأمل وأنا نصف نائم في العائلات الإسرائيلية الشقراء العائدة من الاستجمام إلى ديار الحرب والشك، ثم طرحت سؤالاً كان لا بد منه في هذه الحالة...إلى أي مكان يعودون وإلى أي مكان أنا أعود أو نحن نعود؟
عندما يعود الفلسطيني (48) إلى بلده عبر مطار بن جوريون على وجه التحديد فإنه "يعود" إليه عملياً ولكنه يعيش فقدانه لوطنه في ذات الوقت، اللحظة التي يصل الفلسطيني إلى أرض الدولة (إسرائيل) هي اللحظة التي يعيش فيها التجسيد الأكبر لفقدانه لأرض الوطن (فلسطين) فالأرض موجودة وضائعة في ذات الوقت، حاضرة وغائبة في ذات الوقت كما أنها مادية ومجازية في ذات الوقت أيضاً، ولم يكتب درويش عبثاً مقطعه الشهير " كانت تسمى فلسطين...صارت تسمى فسطين" ..من فلسطين المادة إلى فلسطين الفكرة أو الكلمات أو بالعكس، اختاروا ما شئتم.
فعودة الفلسطيني إلى قريته لا يمكن الا أن تتم عبر المرور ببوابة هزيمته التاريخية والجغرافية المتواصلة، ولكن الأمر لا يختزل بالطريق من المطار الرمزية بشراهة ولكنه ينسحب على يومياته على كونه حاضر – غائب أو ظاهر – مختفي ، بكلمات أخرى "الملانخوليا" بذاتها أو الحداد اليومي والمستمر والدائم والذي لم ولن ينتهي على وطن ضاع ولكنك تعيش فيه ماديا، حيث يبدو كل شيء بلحظة صفاء غير حقيقي وكأنك تعيش داخل خلية لا معنى لها...لأنها ضاعت واختطفت من محيطها الطبيعي الذي يمنحها المعنى والإحداثيات الواقعية أصلا.
بينما يعود الإسرائيلي وعائلته من رحلته الطويلة أو نهاية الأسبوع طويلة إلى وطن متخيل، هو مبني من لبنات مادية ولبنات وعي تشبه مكعبات "الليجو" هي مزيج من انعكاسات للخديعة الممتدة، عالم الإسرائيلي مبني على مبدأ "السيمولاكروم " – ( Simulacrum)، بأشد حالاته تطرفا إلى درجة تتجاوز منظومة الأشكال الخادغة التي تتكون منها حياة الضواحي الأمريكية على سبيل المثال، مما يخلق – للأسف - واقعاً جديداً وقامعاً لا يفكك رموزه سوى الأصلاني الذي كما قلت حاضر لكنه مختفي في آن واحد. الوعي الإسرائيلي حول النقطة التي يعيش فيها وأقرب النقاط التي تحيط به، يتشكل عبر وسطاء فالجار العربي هو ليس ذاته واقعياً بل تلك الصورة التي يفرضها الفارق الأخلاقي الكولنيالي الأبيض على الأبيض ذاته...لتبرير حضوره في المكان المسلوب، كما أن البيت الذي سيعود إليه في "ريشون لتسيون" مثلا ً هو نتاج لأساطير مؤسسة بمرجعية خيالية تكدست عليها طبقات الخديعة دون رحمة، أما حكايات الحرب ومجرياتها وحكايات ألف ليلة ولية للمحيط العربي فهي عبارة عن واقع جديد ومتخيل كلياً يخلقه الإعلام عبر "مراسلينا للشؤون العربية" ومحللي يديعوت أحرونوت لا علاقة له بالأصل الحدث سوى سعيه المنهجي لتثبيت ذلك الفارق الأخلاقي والخلقي بين "السيد" و"العبد".
أما إشكالية القطيعة بين الأصل والأشكال التي تنبع عنه فتصل ذروتها حين نعلم أنه وخلافاً لكل المجتمعات المجيشة، حيث الجيش هو أحد توابع المجتمع "الوطني" وانعكاساته الطبيعة، ففي الحالة الإسرائيلية المجتمع الإسرائيلي هو أحد روافد الجيش الثقافية والمعمارية وليس العكس.
يتوقع فلسطيني الـ 48 الغارق في اكتئابه المزمن وملانخوليته، من الاسرائيلي ان يرشده إلى قريته التي لا يصلها قطار أو حافلة، فكونه مكلوما يجعله يعول على قوة الرجل الأبيض الخارقة والمامه اللامتناهي بالإحداثيات بشكل مفصل وسيزيفي، ولكننا وفي المشهد الميثولوجي الذي يفتتح فيلم "الزمن المتبقي " لإيليا سليمان نشاهد العكس ...حيث يتوه سائق الأجرة الإسرائيلي الذي يريد أن يوصل E.S – الصامت الكئيب إلى بيت العائلة في الناصرة، وذلك بمجرد اجتيازهم حدود مملكة السيمولاكروم، حيث يفقد الرجل الإسرائيلي استحواذه على الواقع، الأرض وعلى المناخ أيضا. بينما تطرح الكاتبة ابتسام عازم في روايتها "سفر الإختفاء" السؤال بشكل مقلوب...هل وجود الفلسطيني الملانخولي الصامت في الحيز هو شرط لقيام مملكة السيمولاكروم الإسرائيلية وهل اختفائه يقوض دعائم تلك المملكة؟